فصل: تفسير الآيات (118- 123):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (118- 123):

{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)}
{وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} يعني اليهود قاله ابن عبّاس.
مجاهد: هم النّصارى. قتادة: هم مشركو العرب. {لَوْلاَ} هلاّ {يُكَلِّمُنَا الله} عياناً بأنك رسوله.
{أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ} دلالة وعلامة على صدقك.
قال الله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} أي كفّار الأمم الخالية {مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} أشبه بعضها بعضاً في الكفر والفرقة والقسوة.
{قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} يا محمّد {بالحق} بالصدق من قولهم فلان محقّ في دعواه إذا كان صادقاً دليله قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ} [يونس: 53] أحقٌّ هو؟ أي صدق. مقاتل: معناه لن نرسلك عبثاً بغير شيء بل أرسلناك بالحق، دليله قوله تعالى: {مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق} [الأحقاف: 3] وهو ضد الباطل.
ابن عبّاس: بالقرآن دليله قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ} [ق: 5].
ابن كيسان: بالاسلام دليله قوله عزّ وجلّ: {وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل} [الإسراء: 81] {بَشِيراً} مبشراً لأوليائي وأهل طاعتي بالثواب الكريم.
{وَنَذِيراً} منذراً مخوفاً لأعدائي وأهل معصيتي بالعذاب الأليم.
{وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم} عطاء وإبن عبّاس: وذلك إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: «ليت شعري ما فعل أبواي» فنزلت هذه الآية.
وقال مقاتل: هو إنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أنزل الله بأسه باليهود لأمنوا» فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم} وفيه قراءتان: بالجزم على النهي وهي قراءة نافع وشيبة والأعرج ويعقوب ووجهها القول الأول في سبب نزول الآية.
وقرأ الباقون: بالرفع على النفي يعني: ولست بمسؤول عنهم دليلها قراءة ابن مسعود: ولن تسأل وقراءة أُبي: وما نسألك عن أصحاب الجحيم ولا تؤخذ بذنبهم والجحيم وهو الجحم والجحمة: معظم النّار.
{وَلَنْ ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} وذلك إنّهم كانوا يسألون النبيّ صلى الله عليه وسلم الهدنة ويطمّعونه ويرون إنّه إن هادنهم إتّبعوه ووافقوه فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال ابن عبّاس: هذا في القبلة وذلك إنّ يهود أهل المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلّي النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم فلمّا صرف الله القبلة إلى الكعبة شقّ ذلك عليهم وأيسوا منه أن يوافقهم على دينهم فأنزل الله: {وَلَنْ ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى حتى تَتَّبِعَ} دينهم وقبلتهم، وزعم الزجّاج: إنّ الملّة مأخوذة من التأثير في الشيء كما تؤثر الملّة في الموضع الّذي يختبز فيه.
{وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الذي جَآءَكَ مِنَ العلم} البيان بأنّ دين الله هو الإسلام وقبلة إبراهيم عليه السلام هي الكعبة.
{مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} قال ابن عباس: نزلت في أهل السفينة الّذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وكانوا أربعين رجلاً وإثنا وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشّام منهم بحيرا.
وقال الضحّاك: من آمن من اليهود عبد الله بن سلام وأصحابه وسعيّة بن عمرو ويمام بن يهودا وأسيد وأسد إبنا كعب وابن يامين وعبد الله بن صوريا.
قتادة وعكرمة: هم أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هم المؤمنون عامّة.
{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} الكلبي: يصفونه في كتبهم حقّ صفته لمن سألهم من النّاس وعلى هذا القول الهاء راجعة إلى محمّد صلى الله عليه وسلم.
وقال آخرون: هي عائدة إلى الكتاب ثمّ اختلفوا في معنى قوله: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} سعيد عن قتادة قال: بلغنا عن ابن مسعود في قوله: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} قال: يحلّون حلاله ويحرمون حرامه، ويقرأونه كما أُنزل، ولا يحرفونه عن مواضعه، وقال الحسن: يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون علم ما أشكل عليهم منه إلى عالمه.
مجاهد: يتبعونه حقّ اتباعه.
{أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فأولئك هُمُ الخاسرون * يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين * واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} إلى قوله: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ}.

.تفسير الآيات (124- 129):

{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)}
قرأ أبو الشعثا جابر بن زيد: {إِبْرَاهِيمَ} ربه إبراهيم رفعاً وربه نصباً على معنى سأل ودعا فقيل له ومن اين لك هذا؟ فقال: اقرأنيه ابن عباس. وهذا غير قوي لأجل الباء في قوله: {بِكَلِمَاتٍ} وقرأ الباقون بالنصّب، وجعلوا معنى الأبتلاء الأختيار والامتحان في الأمر، وهو الصحيح، وفي {إِبْرَاهِيمَ} أربع لغات: قرأ ابن الزبّير: ابرهام بألف واحد بين الهاء والميم، وقرأ أبو بكر إبراهم وكان زيد بن عمر يقول في صلاته: إني عذت بما عاذ به إبراهيم، إذ قال:
إني لك اللهم عان راغم

وقرأ عبد الله بن عامر اليحصبي: ابراهام بألفين، وقرأ الباقون: إبراهيم قال يحيى بن سعيد الأنصاري: أقرأ ابراهام وابراهيم. فأن الله عزّ وجلّ أنزلهما كما أنزل يعقوب واسرائيل، وعيسى والمسيح ومحمّداً وأحمد.
الربيع ابن عامر: مصحفة مكتوب في مصاحف أهل الشام إبراهام بالألف وفي غيرها بالياء.
وإبراهيم إسم أعجمي ولذلك لا يجري وهو إبراهيم بن نازح بن ناحور بن ساروخ بن ارخوا بن فالغ بن منابر بن الشالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح. فاختلفوا في مسكنه، فقال بعضهم: كان [بكشكر،] وقال قوم: حرّان؛ ولكن أباه نقله إلى بابل أرض نمرود بن كنعان واختلفوا في الكلمات التي ابتلى إبراهيم عليه السلام: عن ابن عبّاس: هي ثلاثون سهماً، وهي شرائع الأسلام، ولم يبتل أحد بهذا الدّين كلّه فأقامه كلّه إلاّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
{فَأَتَمَّهُنَّ} فكتب له البراءة. فقال: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} [النجم: 37] وهي عشرة في براءة {التائبون العابدون} الآية [التوبة: 112] وعشرة في الأحزاب {إِنَّ المسلمين والمسلمات} الآية [الأحزاب: 35]، وعشرة في المؤمنين {سَأَلَ سَآئِلٌ} [المعارج: 1] {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} [المؤمنون: 9]، وقوله: {إِلاَّ المصلين} [المعارج: 22].
وروى طاووس عن ابن عبّاس قال: إبتلاه بعشرة أشياء هي من الفطرة والطّهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد فالتّي في الرأس قصّ الشارب والمضمضة والاستنشاق والسّواك وفرق الرأس، والّتي في الجسد: تقليم الأظافر ونتف الأبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء.
مجاهد: هي الآيات الّتي في قوله: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} إلى آخر القصّة.
الربيع وقتادة: مناسك الحج.
الحسن: ابتلاه بسبعة أشياء إبتلاه بالكواكب والقمر والشمس فأحسن في ذلك وعلم أنّ ربّه دائم لا يزول وإبتلاه بالنّار فصبر على ذلك، وإبتلاه بذبح ابنه فصبر على ذلك وبالختان فصبر على ذلك وبالهجرة فصبر عليه.
سعيد بن جبير: هي قول إبراهيم وإسماعيل حين يرفعان البيت {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ} [البقرة: 127] فرفعاه بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر.
يمان: هي محاجّة قومه قال الله: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ} إلى قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ} [الأنعام: 80-83].
أبو روق: هي قوله عليه السلام {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}
الآيات [الشعراء: 78].
وقال بعضهم: هي إنّ الله ابتلاه في ماله وولده ونفسه فسلم ماله إلى الضيفان، وولده إلى القربان، ونفسه إلى النيران، وقلبه إلى الرّحمن فاتخذه خليلاً، وقيل: هي سهام الأسلام وهي عشرة: شهادة أن لا اله إلاّ الله وهي الملّة والصلاة وهي القنطرة.. قال: والزكاة وهي الطهارة والصّوم وهو الجنّة والحج وهو الشريعة، والغزو وهو النّصرة، والطاعة وهي العصمة، والجماعة وهي الألفة، والأمر بالمعروف وهو الوفاء والنهي عن المنكر وهو الحُجّة. فأتمهنّ. قال قتادة: أدّاهن.
الربيع: وفى بهنّ.
الضّحاك:... أيمانهن، يمان: عمل بهن. قال الله {إِنِّي جَاعِلُكَ} يا إبراهيم {لِلنَّاسِ إِمَاماً} ليقتدي بك وأصله من الأُم وهو القصد.
{قَالَ} إبراهيم {وَمِن ذُرِّيَّتِي} ومن أولادي أيضاً. فاجعل أئمّة يُقتدى بهم وأصل الذريّة الأولاد الصغار مشتق من الذر لكثرته، وقيل: من الذرر وهو الخلق فخفف الهمز وأدخل التشديد عوضاً عن الهمز كالبرّيّة.
قيل: من الذرو وفيها ثلاث لغات:
ذريّة بكسر الذال، وهي قراءة زيد بن ثابت، وذريّة بفتحها وهي قراءة أبي جعفر، وذريّة بضمها وهي قراءة العامّة.
{قَالَ} الله {لاَ يَنَالُ} أي لا يصيب.
{عَهْدِي الظالمين} وفيه ثلاث قراءات: عهدي الظالمون، وهي قراءة ابن مسعود وطلحة ابن مصرف، وعهدي الظالمين مرتجلة الياء، وهي قراءة أبي رجاء والأعمش وحمزة، وعهدي الظالمين بفتح الياء وهي قراءة العامّة، واختلفوا في هذا العهد فقال عطاء بن أبي رباح: رحمتي.
الضحّاك: طاعتي دليله قوله: {وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40].
السّدي: التوفي دليله قوله: {الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة: 27].
مجاهد: ليس الظالم أن يطاع في ظلمه.
أبو حذيفة: أمانتي دليله قوله: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ} [النحل: 91].
أبو عبيد: أماني دليله قوله: {فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4]، وقيل: إيماني دليله قوله عزّ وجلّ {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابني ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان} [يس: 60].
{وَإِذْ جَعَلْنَا البيت} يعني الكعبة.
{مَثَابَةً} مرجعاً والمثاب والمثابة واحد كالمقام والمقامة قال ابن عبّاس: يعني معاذاً وملجأً.
مجاهد وسعيد بن جبير والضحّاك: يَثِبون إليه من كلّ جانب ويحجّون ولا يملّون منه فما من أحد قصده إلاّ وهو يتمنى العود إليه.
قتادة وعكرمة: مجمعاً، وقرأ طلحة بن مصرف: مثابات على الجمع.
{لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} مأمناً يأمَنون فيه.
قال ابن عبّاس: فمن أحدث حدثاً خارج الحرم ثمّ التجأ إلى الحرم أمن من أن يهاج فيه ولكن لا يؤوى ولا يخالط ولا يبايع ويوكلّ به فاذا خرج منه أقيم عليه الحد ومن أحدث في الحرم أقيم عليه الحدّ فيه.
{واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} قرأ شيبة وابن عامر ونافع والأعرج والحسن وابن أبي إسحاق وسلام: واتّخذوا بفتح الخاء على الخبر وقرأ الباقون: بالكسر على الأمر.
قال ابن كيسان: ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بالمقام ومعه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله أليس هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: «بلى» قال: أفلا نتخذه مصلّى؟
قال: «لم أؤمر بذلك».
فلم تغب الشمس من يومهم حتّى نزلت: {واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}.
وعن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: «وافقني ربي في ثلاث. قلت: لو أتخذت من مقام إبراهيم مصلّى فأنزل الله {واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وقلت يا رسول الله: يدخل عليك البر والفاجر فلو حجبت أُمهات المؤمنين فأنزل الله آية الحجاب قال: وبلغني شيء كان بين أُمهات المؤمنين وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم فاستنفرتهنّ فجعلت أقول لهنّ: لتكفنّ عن رسول الله أو استبدلته أزواجاً خيراً منكنّ حتّى أتيت على آخر أُمهات المؤمنين.
وقالت أمّ سلمّة: يا عمر أما في رسول الله ما يغبط نساءه حتّى يعظهِن مثلك وأمسكت فأنزل الله تعالى: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} الآية [التحريم: 5]»
.
واختلفوا في معنى قوله: {مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ} قال إبراهيم النخعي: الحرم كلّه مقام إبراهيم.
يمان: المسجد كلّه مقام إبراهيم.
قتادة ومقاتل والسّدي: هو الصّلاة عند مقام إبراهيم أُمروا بالصلاة عنده ولم يؤمروا بمسحه ولا تقبيله.
وأمّا قصّتهُ وبدءُ أمره.
فروى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: «لما أتى إبراهيم بإسماعيل وهاجر فوضعهما بمكّة ولبث على ذلك مدة، ونزلها الجوهميّون وتزوج إسماعيل امرأة منهم، وماتت هاجر. فاستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل. فقدم إبراهيم وقد ماتت هاجر فذهب إلى بيت إسماعيل. فقال لأمرأته: أين صاحبك؟
قال: ليس هاهنا. ذهب للصيّد، وكان إسماعيل يخرج من الحرم فيصيد ثمّ يرجع. فقال لها إبراهيم: هل عندك ضيافة؟ هل عندكِ طعام أو شراب؟ قالت: ليس عندي ولا عندي أحد.
قال إبراهيم: إذا جاء زوجكِ فأقرئيه السّلام، وقولي له: فليغير عتبة بابه، وذهب إبراهيم، فجاء إسماعيل ووجد ريح أبيه. قال لامرأته: هل جاءكِ أحدٌ؟
قالت: جاءني شيخ صفته كذا، كالمستخفة بصفته. قال: فما قال لكِ؟
قالت: قال لي أقرئي زوجك مني السّلام، وقولي له: فليُغير عتبة بابه. فطلّقها، وتزوج أُخرى. فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثمّ استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل، وجاء إبراهيم حتّى أتى إلى بيت إسماعيل.
فقال إبراهيم لامرأته: أين صاحبك؟
قالت: ذهب يتصيّد وهو يجيء الآن إنشاء الله فأنزل يرحمك الله.
قال لها: هل عندك ضيافة؟
قالت: نعم فجاءت باللّبن واللّحم فدعا لهما بالبركة فلو جاءت يومئذ بخبز بر أو شعير أو تمر لكانت أرض الله برّاً وشعيراً وتمراً وقالت له: إنزل حتّى أغسل رأسك فلم ينزل فجاء بالمقام فوضعته تحت شقّه الأيمن فوضع قدمه عليه وغسلت شقّ رأسه الأيمن ثمّ حوّلت المقام إلى شقّه الأيسر فبقى أثر قدمه عليه فغسلت شقّ رأسه الأيسر فقال لها: إذا جاء زوجك فأقريه السّلام وقولي له: قد استقامت عتبة بابك. فلمّا جاء إسماعيل وجد ريح أبيه فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: نعم، شيخ أحسن النّاس شبهاً وأطيبهم ريحاً فقال لي كذا وقلت له كذا وغلست رأسه وهذا موضع قدميه على المقام فقال لها: ذلك إبراهيم عليه السلام»
.
وقال أنس بن مالك: رأيت في المقام أثر أصابعه وعقبه وأخمص قدميه غير إنّه أذهبه مسح النّاس بأيديهم.
نافع بن شيبة يقول: سمعت عبدالله بن عمر يقول: أشهد ثلاث مرّات أنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنّة طمس الله نورهما ولولا أن طمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب».
{وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} أي أمرناهما وأوصينا إليهما.
{أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ} الكعبة أي إبنياه على الطّهارة والتوحيد.
وقال سعيد بن جبير وعبيد بن عمر وعطاء ومقاتل: طهّرا بيتي من الأوثان والرّيب وقول الزور، وسمع عمر رضي الله عنه صوت رجل في المسجد فقال: ما هذا أتدري أين أنت؟
الأوزاعي عن عهدة بن أبي لبابة عن زر بن حبيش قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله أوحى إليّ يا أخ المرسلين يا أخا المنذرين إنذر قومك ألاّ يدخلوا بيتاً من بيوتي إلاّ بقلوب سليمة وألسن صادقة وأيد نقيّة وفروج طاهرة ولا يدخلوا بيتاً من بيوتي ولأحد عندهم مظلمة فإنّي ألعنه ما دام قائماً بين يديّ يصلّي حتّى يردّ تلك الظلامة إلى أهلها فأكون سمعه الّذي يسمع به وأكون بصره الّذي يبصر به ويكون من أوليائي وأصفيائي ويكون جاري مع النبيّين والصدّيقين والشّهداء والصالحين».
وقال يمان بن رئاب: معناه بخّراه وخلقاه.
مكحول عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جنّبوا مساجدكم غلمانكم يعني صبيانكم ومجانينكم وسلّ سيوفكم ورفع أصواتكم وحدودكم وخصومكم وبيعكم وشراءكم وحمرّوها يوم جمعتكم واجعلوا على أبوابها بظاهركم».
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وجعفر وأهل المدينة: {بيتي} بفتح الياء وقرأ الاخرون: باسكانه واضافته تعالى إلى نفسه سبحانه تخصيصاً وتفضيلاً.
{لِلطَّائِفِينَ} حوله وهم النزاح إليه من آفاق الأرض. {والعاكفين} أي المقيمين فيه وهم سكّان الحرم. {والركع} جمع الرّاكع. {السجود} جمع الساجد مثل قاعد وقعود.
قال عطاء: إذا كان طائفاً فهو من الطائفين وإذا كان جالساً فهو من العاكفين وإذا كان مصلّياً فهو من الركّع السجود.
الاوزاعي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ في كلّ يوم وليلة عشرين ومائة رحمة ينزل على هذا البيت فستون للطائفين وأربعون للمصلّين وعشرون للناظرين».
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا} يعني مكّة أو الحرم.
{بَلَداً آمِناً} أي مأموناً فيه يأمن أهله.
{وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر} قال الأخفش: من آمن بدل من أهله على البيان، كما يُقال: أخذت المال ثلثيه ورأيت القوم ناساً منهم، وهذا ابدال البعض من الكلّ كقوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97].
{قَالَ} الله. {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} فسأرزقه إلى منتهى أجله لأنه تعالى وعد الرزق للخلق كافة كافرهم ومؤمنهم وقيد بالقلة لأن متاع الدنيا قليل. قرأ معاوية وابن عامر: فامتعه بضم الألف وجزم الميم خفيفة، وقرأ أُبي: فنمتعه قليلاً ثمّ نضطره بالنون.
{ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} موصولة الألف مفتوحة الراء على عهد الدُّعاء من إبراهيم عليه السلام، وقرأ الباقون: فأُمتعه بضم الألف مشددّة ثمَّ اضطره على الخبر أيّ الجنة في الآخرة {إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير} أيّ المرجع تصير إليه.
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ} روى الرواة من أسانيد مختلفة في بناء الكعبة جمعت حديثهم ونسقته ليكون أحسن في المنطق وأقرب إلى الفهم.
قالوا: خلق الله عزّ وجلّ موضع البيت قبل الأرض بألفي عام، فكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحتها. فلما أهبط الله عزّ وجلّ آدم إلى الأرض كان رأسه يمسّ السّماء حتّى صلع وأورث أولاده الصّلع ونفرت من طوله دواب الأرض فصارت وحشاً من يومئذ، وكان يسمع كلام أهل السّماء ودُعاءهم وتسبيحهم، يأنس إليهم فهابته الملائكة واشتكت نفسه. فنقصه الله عزّ وجلّ إلى ستين ذراعاً بذراعه. فلمّا فقد آدم ما كان يسمع من أصوات الملائكة وتسبيحهم استوحش، وشكا ذلك إلى الله عزّ وجلّ. فأنزل الله ياقوتة من يواقيت الجنّة الكلام مقطوع له بابان من زمرّد أخضر باب شرقي وباب غربي فأنزل الله فيه قناديل من الجنّة. فوضعه على موضع البيت إلى الآن ثمّ قال: يا آدم إنّي أهبطت لك بيتاً تطوف به كما يُطاف حول عرشي، وتصلّي عنده كما يُصلّى عند عرشي.
فأنزل عليه الحجر. فمسح به دموعه وكان أبيض فلما لمسته الحُيَّض في الجاهلية أسود.
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّما الحجر ياقوتة من يواقيت الجنّة ولولا ما مسه المشركون بأنجاسهم ما مسّهُ ذو عاهة إلاّ شفاه الله تعالى».
فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكّة ماشياً وقيّض الله له ملكاً يدلّه على البيت.
قيل لمجاهد: يا أبا الحجّاج ألاّ كان يركب؟
قال: فأي شيء كان يحمله فوالله إن خطوه مسيرة ثلاثة أيّام وكلّ موضع وضع عليه قدمه عمران وما تعدّاه مفاوز وقفار فأتى مكّة وحجّ البيت وأقام المناسك فلمّا فرغ تلقّته الملائكة فقالوا: برّ حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام.
قال ابن عبّاس: حجّ آدم أربعين حجّة من الهند إلى مكّة على رجليه فهذا بدء أمر الكعبة فكانت على ذلك إلى أيّام الطّوفان فرفعه الله إلى السّماء الرابعة فهو البيت المعمور يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك ثمّ لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، وبعث الله جبرائيل حتّى خبّأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة عن الغرق فكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم عليه السلام ثمّ إنّ الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بعد ما ولد له إسماعيل وإسحاق ببناء بيت له يعبد ويذكر فيه فلم يدر إبراهيم أين خبّيء فسأل الله تعالى أن يبيّن له موضعه فبعث الله إليه السكينه ليدلّه على موضع البيت وهي ريح جموح لها رأسان شبه الحيّة فتبعها إبراهيم إلى أن أتيا مكّة فطوّق الله السكينة على موضع البيت كتطويق الحيّة الحجفة وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السّكينة فبناه وهذا قول علي والحسن بن أبي الحسن، وقال ابن عبّاس: بعث الله سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلمات إلى أن وافت مكّة ووقفت على موضع البيت، ونودي: أنْ يا إبراهيم إبني على ظلّها لا تزد ولا تنقص فبنى بخيالها.
وقال بعضهم: أرسل الله جبرائيل ليدلّه على موضع فذلك قوله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت} [الحج: 26] فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت، جعل إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجارة.
قال الثّعلبي: سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا بكر محمّد بن محمّد بن أحمد القطان البلخي وكان عالماً بالقرآن يقول: كان إبراهيم يفهم بالسريانية وإسماعيل بالعربيّة وكلّ واحد منهما يعرف ما يقول صديقه وما يمكن التفوّه به وكان إبراهيم يقول لإسماعيل: هبلي كنيا يعني: ناولني الحجر، ويقول إسماعيل: هاك الحجر خذه.
قالوا: فبقي موضع الحجر فذهب إسماعيل إليه فجاء جبرئيل بحجر من السّماء فأتى إسماعيل وقد ركّب إبراهيم الحجر في موضعه فقال له: من آتاك بهذا؟
فقال: آتاني به من لم يتكّل على بناءك فأقاما البيت فذلك قوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت}.
قال ابن عبّاس: يعني أُصول البيت الّتي كانت قبل ذلك.
الكلبي وأبو عبيدة: أساسه واحدته قاعدة فبنياه من خمسة أجبل طور سيناء.... وطور سينا والجودي وبنيا قواعده من حرّاء، فلّما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسماعيل: جئني بحجر حسن يكون للناس علماً فأتاه بحجر فقال له: جئني بحجر أحسن من هذا، فمضى إسماعيل بطلبه فصاح أبو قبيس يا إبراهيم إنّ لك عندي وديعة فخذها فأخذ الحجر الأسود ووضعه مكانه.
وقيل: إنّ الله تعالى مدّ لإبراهيم وإسماعيل بسبعة أملاك يعينونهما على بناء البيت فلمّا فرغا من بنائه قالا: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ} أي تقبل منّا بناءنا البيت. {إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم} بنيّاتنا.
{رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ} موحّدين مطيعين مخلصين {لَكَ}.
وقرأ عون بن أبي جميلة: مسلمين بكسر الميم على الجمع.
{وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ} أولادنا {أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا} علمنا نظيره قوله: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله} [النساء: 105] أي: علّمك الله وفيه أربع قراءات:
عبد الله بن مسعود: وأرهم مناسكهم ردّه إلى الأمّة.
وقرأ عمر بن عبد العزيز وقتادة وابن كثير ورويس بسكون الرّاء كل القرآن.
وقرأ أبو عمرو: باختلاس كسره للواو.
وقرأ الباقون: بكسر الرّاء والأصل فيها أرانا بالهمز فحذفت استخفافاً.
فمن قرأ بالجزم قال: ذهبت الهمزة وذهبت حركتها وبقيت الرّاء ساكنة على حالها واستدل بقول السدي: أَرْنَا أداوة عبدالله نملأها من ماء زمزم إنّ القوم قد ظمئوا.
ومن كسر فأنّه نقل حركة الهمزة المحذوفة إلى الرّاء.
وأمّا أبو عمرو فطلب الخفّة.
وأخبر القاسم بن سلام عن شجاع بن أبي نصر قال، وكان أميناً صدوقاً: إنّه رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام فذكّره أشياء من حرف أبي عمرو فلم يردّ عليه إلاّ حرفين أحدهما هذا والآخر: ما ننسخ من آية أو ننسأها مهموزة.
{مَنَاسِكَنَا} شرائع ديننا وإعلام حجّتنا.
وقال مجاهد: مذابحنا والنسك: الذّبيحة، وأصل النسك: العبادة يقال للعابد ناسك قال الشّاعر:
وقد كنت مستوراً كثير تنسّك ** فهتكت أستاري ولم يبق لي نسكاً

فأجاب الله دعاءهما وبعث جبرئيل فأراهما المناسك في يوم عرفة فلمّا بلغ عرفات قال لإبراهيم: عرفت يا إبراهيم؟
قال: نعم فسمّي الوقت عرفه والموضع عرفات.
{وَتُبْ عَلَيْنَآ} تجاوز عنّا وارجع علينا بالرأفة والرحمة.
{إِنَّكَ أَنتَ التواب} المتجاوز الرجّاع بالرحمة على عبادك. {الرحيم}.
{رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ} أي في الأمّة المسلمة من ذريّة إبراهيم وإسماعيل.
وقيل: في أهل مكّة {رَسُولاً} أي مرسلاً وهو فعُول من الرسالة.
وقال ابن الأنباري: يشبه أن يكون أصله من قولهم ناقة مرسال ورسله إذا كانت سهلة السّير ماضية أمام النواق.
ويقال للجماعة المهملة المرسلة: رسْل وجمعه أرسال.
ويقال: جاء القوم ارسالاً أيّ: بعضهم في أثر بعض، ومنه قيل للّبن رُسلاً لأنّه يرسل من الضّرع.
{يَتْلُواْ} يقرأ {عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} كتابك جمع الآية وهي العلامة.
وقيل: الآية جماعة الحروف.
وقال الشيباني: هي قولهم: خرج القوم بمافيهم أي بجماعتهم.
{وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة} فقال بعضهم: الآية هاهنا الكتاب فنسّق عليه خلاف اللفظين كقول الحطيئة:
ألا حبّذا هند وأرض بها هند ** وهند تفصيل اتى من دونها النّأي والبعد

مجاهد: يعني الحكمة فهم القرآن.
مقاتل: هي مواعظ القرآن وما فيه من الأحكام وبيان الحلال والحرام.
ابن قتيبة: هي العلم والعمل ولا يسمّى الرّجل حكيماً حتّى يجمعهما.
وعن أبي بكر محمّد بن الحسن البريدي: كلّ كلمة وعظتك أو زجرتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة وحكم، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ من الشّعر لحكمة».
وعن أبي جعفر محمّد بن يعقوب: الحكمة كلّ صواب من القول ورّث فعلاً صحيحاً أو حالاً صحيحاً.
يحيى بن معاذ: الحكمة جند من جنود الله يرسلها إلى قلوب العارفين حتّى يروّح عنها وهج الدّنيا، وقيل: هي وضع الأشياء مواضعها، وقيل: الحكمة والحكم كلّما وجب عليك فعله.
قال الشّاعر:
قد قلت قولاً لم يعنّف قائله ** الصمت حكم وقليل فاعله

أي واجب العمل بالصمت.
وقيل: هي الشرك والذّنوب، وقيل: أخذ زكاة أموالهم.
وقال ابن كيسان: يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذا شهدوا الأنبياء بالبلاغ، دليله قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143].
{إِنَّكَ أَنتَ العزيز} ابن عبّاس: العزيز الّذي لا يوجد مثله، بيانه قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
الكلبي: العزيز المنتقم ممّن يشاء بيانه قوله: {والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} [آل عمران: 4].
الكسائي: العزيز الغالب بيانه قوله: {وَعَزَّنِي فِي الخطاب} [ص: 23]: أي غلبني.
وقيل في المثل: من عزيز.
ابن كيسان: العزيز الّذي لا يعجزه شيء بيانه قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} [فاطر: 44].
المفضَّل بن سلمة: العزيز المنيع الّذي لا تناله الأيدي فلا يردّ له أمر ولا يغلب فيما أراد بيانه قوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107].
وقيل: بمعنى المعزّ فعيل بمعنى مفعل بيانه قوله: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} [آل عمران: 26].
وقيل: هو القوي بيانه قوله: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14] أي قوّينا. فأصل العزّة في اللّغة الشدّة يقال تعزز لحم النّاقة إذا إشتدّ ويقال: عزّ عليّ أي شقّ عليّ وأشتد، وأنشد أبو عمرو:
أجد إذا ضمرت تعزّز لحمها ** وإذا نشد بتسعها لا تيئس

فاستجاب الله دعاء إبراهيم وبعث فيهم محمّداً سيّد الأنبياء ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّي عبد الله في أُمّ الكتاب لخاتم النبييّن وإنّ آدم لمجدل في طينة وسوف أنبئكم بذلك دعوة إبراهيم وبشارة عيسى عليهما السلام قومه، ورؤيا أْمي التي رأت إنّه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك ترى أمّهات النبييّن».
سعيد بن سويد عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} الآية.
وذلك إن عبد الله بن سلام دعا إبني أخيه سلمة ومهاجر إلى الإسلام فقال لهما: قد علمتما إنّ الله عزّ وجلّ قال في التوراة: إنّي باعث من ولد إسماعيل نبياً إسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى ورشد ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجراً أن يسلم فأنزل الله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن..}.